تصنيف الرئيسي
البريجة في التراث الشِعري
البريجة في التراث الشِعري
الجديدة بريس – رضوان خديد
حَمَلت الجديدة عبر تاريخها أسماء كثيرة من بينها البريجة ومازيغن ومازاغاو… ثمة في العادة وراء كل اسم أسطورة، فإن تلاشت الأسطورة بقيت الحكاية، وإذا غابت الحكاية فَرُبَّ قصيدة أو بيت شعري.
كما أن خَلْفَ كل اسم من أسماء المدينة نسب أو انتساب: نسب إلى سُلطة وقتية مادية أم رمزية، تُسمّي الأشياء والأماكن بما يؤكد سلطانها ويُثبِّتُ امتدادها؛ كما أن أسماء المدن وثيقة الصلة بالانتساب إلى شجرة ثقافية وحضارية ما، وأول ما يَكشف عن ذلك الانتساب هو لغة الاسم ذاتها التي ينتمي إليها بالحروف والأصوات (عربية البريجة، أمازيغية مازيغن، برتغالية مازاغاو…). وبعد أن تتلاشى الأسماء مع مرور الزمن، تبقى في الذاكرة التراثية بقايا شاهدة بعضها مدسوس في نصوص شعرية أشبه بالكنوز.
يعنينا هنا اسم البريجة: الذي يبدو أنه كان الاسم الرسمي لزمن غير قصير حتى ترسَّخَ في الذاكرة الشعبية التي صانته طويلا. ثم مُنِحَت المدينة اسمها الحالي “الجديدة” بعد سرى على ألسنة المغاربة اسم “المهدومة”، أُريدَ بالاسم الحالي تخليص المدينة من شؤم الخراب وبعثها في صورة مستجدة، فكان الاسم والصفة.
والبريجة تصغير لكلمة البرج، ويربطه بعض المؤرخين “ببرج الشيخ”، ونريد نحن أن نبحث له عن مكان في تصورات المغاربة كما حفظه التراث الشعري المغربي لعلنا نقف على ملامح هذه “البريجة” التي صارت “مهدومة” ثم وُلدت “جديدة”. بل لم ينقطع اللسان الشعبي عن تلقيبها بالبريجة، وإلى هذا الأمر بالذات يُنبِّهنا والد المختار السوسي في رحلته الحجية التي نَظَمها في شكل قصيدة شعرية وقال فيها:
إذا مدينة الجديدة التي ** تعرف عند البعض بالبريجة
قبل عقود طويلة من رحلة والد المختار السوسي، عندما كانت الحصن واقعا تحت الاحتلال، وكانت همّةُ المغاربة تتطلع إلى افتكاكه. احتفظ لنا التراث الشعري من ذلك الزمن بالمنزلة التي كانت لهذه المدينة عند المغاربة وفي وجدانهم فهي مثلها مثل سبتة وباديس. هذا ما نقف عليه، على سبيل المثال، في قصيدة لعبد السلام جسوس (شاعر معاصر للسلطان مولاي إسماعيل) إذ يقول مخاطبا السلطان:
رَفَعَتْ منازلُ سبتة أصواتها ** تشكو إليكُم بالذي قد هالها
مع باديس وبريجــة فتعطفوا ** وتنبهوا كي تسمعوا تسئالها
يا ابن النبي الهاشمي محمد ** قُلْ يا أمير المؤمنين أنا لها
ومعلوم أن السلطان المولى إسماعيل كان قد حرر ثغورا مغربية من بينها طنجة والعرائش.
تحققت أمنية المغاربة بعد عقود على يد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، فاسترجع المغاربة البريجة، وقد قيل شعر كثير شعبي وعالِم بهذه المناسبة. نعرض هنا لإشارتين موجزتين مطمئنين إلى أن القارئ النبيه سيُلامس ما وراءهما من قضايا وأفكار:
– الإشارة الأولى: أورد صاحب “الحلل البهيجة في فتح البريجة” أبياتا شعرية كثيرة يهمنا منها ما يلي:
وضجوا فرارا من بريجتهم حقا ** حكايتهم مثل الغرور على الضجر
(يقرأ البيت الأخير أيضا: حكايتهم مثل القرود على الصخر)
إلى أن يقول الشاعر:
غنيمة لكم ساقها الله نحوكم ** ويسرها الرحمان وغير ما عسر
فنسبَ الشاعرُ البريجةَ إلى الفارين عنها (البرتغاليين الذين خرجوا منها منهزمين) ثم صوّرها وكأنما دخول السلطان إليها هو أول عهد للمغاربة بها، وفي ذلك ما فيه من مبالغات الشعراء، وفيه أيضا ما يدل على مَنَعَتِها، وأن إرجاعها كان وكأنه ولادة جديدة لمدينة كاد يقعُ اليأس منها (استمرت تحت الحكم البرتغالي أزيد من 250 سنة).
– الإشارة الثانية: وهي قصيدة من شعر الملحون نُظمت لتحفيز بعض قبائل الشاوية (امزاب) من أجل المساهمة في حصار البريجة، أو لعلها قيلت لتوثيق خبر فتحها. يقول الشاعر الشعبي:
لله يالبريجة علاش تبكي
وانتِ كان فيك السلطان
طبعا من أراد أن يقف على خيوط ذات اتصال بذهنية المغاربة وتمثلاتهم حول تراثهم بشكل عام ومدنهم العريقة ومواقعهم التاريخية على وجه الخصوص، عليه أن يلتقط هذه الإشارات المتفرقة هنا وهناك، وأن يَضُمَّها إلى علامات كثيرة جاء بعضها عند ابن الوَنّان الذي يُعتبر شاعر السلطان سيدي محمد بن عبد الله. قال عنه الضعيف الرباطي إنه «شاعر الزمان وفصيح الأوان أبو العباس أحمد بن العلاّمة الفقيه الوجيه السيد محمد الونان»، وقال عنه ابن زيدان في إتحاف أعلام الناس «وله في مدحه [أي مدح السلطان سيدي محمد بنعبد الله] قصيدة أخرى من البسيط على روي الدال يذكر فيها ثغر الجديدة وإجلاء البرتقال [هكذا]عنها ويصف الحال وهي طويلة».
نرجع الآن إلى قضية النَسَب والانتساب في عُرف الشعراء وبلغاتهم اللِّسانية والوجدانية، فللبُصيري انتساب أراده إلى بلاد دكالة، ففي قصيدة له مطلعها:
قفا بي على الجرعاء من جانب الغرب ** ففيــــها حبيب لــي يهيم به قلبي
إلى أن يقول في بيتين شعريين نعتبرهما من بين أجمل ما قيل في هذه القرابة la parenté المُشتهاة:
وما أنا من دكالة غير أنني ** نسبتُ إليهم نسبة الصدق في الحب
كنسبة سلمــــان لبيت نبيه ** وما كــان في قبيل منهم ولا شِعب
*رضوان خديد
باحث في الأنثروبولوجيا وعلم المتاحف